القارة السابعة ومشكلة النفايات البلاستيكية



"ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلهم يرجعون"، قول الله عز وجل أشد ما ينطبق هذه الأيام على درجة التلوث والمعاناة التي أصبحت تئن تحتها معظم البحار والمحيطات وكافة المسطحات المائية المعرضة للضغوط البشرية وسوء استغلال الإنسان، وعلى آثار هذا التلوث علينا.
ولغة الأرقام في هذا الشأن لا تكذب ولا تخطئ، حيث يشير أحد التقارير على سبيل المثال إلى أن أعداد الأسماك والطيور والثديات البحرية قد تناقصت بمعدل النصف خلال الفترة من 1970 إلى 2010.
"أعداد الأسماك والطيور والثديات البحرية تناقصت بمعدل النصف خلال الفترة من 1970 إلى 2010، كما أن مساحة المناطق البحرية الميتة -أي المناطق الأقل إنتاجية والأكثر فقرا- زادت عالميا بنسبة 15% خلال الفترة من 1998 إلى 2007"
كما يشير تقرير آخر إلى أن مساحة المناطق البحرية الميتة -أي المناطق الأقل إنتاجية والأكثر فقرا- قد زادت عالميا بنسبة 15% خلال الفترة من 1998 إلى 2007.
والمجال هنا لا يتسع لذكر أرقام وحقائق أخرى مخيفة عن درجة تلوث المناطق الساحلية على وجه الخصوص بالنفط والمواد الكيميائية ومياه المجارير، وغيرها من الملوثات والمؤثرات التي تصرف في البحر مباشرة وفي أغلب الأحوال من دون معالجة أو تنقية.
ومظاهر هذا الفساد -أو لنقل الإفساد- معلومة للجميع ويصعب أن تخطئها أي عين، لكنّ هناك مع ذلك أنماطا أخرى من التلوث، قد تكون خافية علينا وقد تكون آثارها السلبية على البيئة والصحة العامة أخطر من كل مظاهر التلوث السابقة.
ومن هذا على سبيل المثال، مشكلة زيادة انتشار المخلفات والنفايات، البحرية عموما والبلاستيكية والميكروبلاستيكية خصوصا، في البحار والمحيطات بكثافة وكميات كبيرة، والمخاطر الصحية والبيئية المترتبة على تسرب عناصرها السامة إلى السلسلة الغذائية ومكونات الأنظمة البيئية المختلفة بما فيها الإنسان نفسه.
القارة السابعة
لقد شكل اختراع وظهور البلاستيك واللدائن عموما في حياتنا ما يشبه الثورة نظرا للفوائد والمزايا العديدة التي تتحلى بها هذه المادة وكافة منتجاتها، وأهمها رخص ثمنها ومقاومتها للصدأ، وقدرتها على التحمل والتشكل قياسا على سبيل المثل بالزجاج أو الخشب.
لذا فقد أخذ معدل استخدامها يتزايد على نحو كبير ولافت على مستوى العالم منذ منتصف السبعينيات. كما شكل اختراع الأكياس البلاستيكية الخفيفة والمنتجات المشابهة طفرة إضافية في معدلات استهلاك هذه المادة ومن ثم مستوى انتشارها عبر العالم، خاصة البحار والمحيطات والتي تعتبر المرفأ النهائي لمعظم المواد البلاستيكية المستهلكة والنفايات البحرية عموما، حيث تقوم الرياح والأنهار وغيرها بجرفها ونقلها من اليابسة والمناطق الداخلية إلى السواحل والشواطئ، لتقوم الرياح والتيارات البحرية النشطة السائدة فيها بسحبها إلى مناطق مائية أكثر هدوء وركودا داخل الأجزاء البحرية العميقة.
 "تتراكم النفايات البلاستكية وغيرها من المواد على مساحات واسعة في أماكن محددة خاصة في شمال المحيط الهادي، مشكلة جزرا جديدة من النفايات الطافية أو قارة سابعة عائمة كما يحلو للبعض تسميتها"
وهذه العملية تجري على هذا النحو بلا هوادة من اليابسة إلى السواحل ومن ثم إلى المياه العميقة الهادئة داخل البحار والمحيطات المختلفة بشكل يومي بل آني، مما يؤدي إلى تجمع وتراكم النفايات البلاستكية وغيرها من المواد على مساحات واسعة في أماكن محددة خاصة في شمال المحيط الهادي، مشكلة جزرا جديدة من النفايات الطافية أو قارة سابعة عائمة كما يحلو للبعض تسميتها.
وهذه القارة ليست ضربا من الخيال أو ذكرها يمثل مبالغة، بل هي حقيقة واقعة، حيث كان أول من اكتشف وجودها وأعلن عنها الرحالة عالم البحار المتخصص تشارلز مور في العام 1997. ويقدر بعض العلماء مساحة هذه القارة حاليا بما يعادل ستة أضعاف مساحة فرنسا، متوقعين أن تستمر في التمدد والتوسع بشكل مضطرد في ظل تنامي استهلاك المواد البلاستيكية والخشبية إلى أن تفوق مساحة القارة الأوروبية.

الآثار الصحية والبيئية
تعتبر صناعة المواد البلاستيكية من الصناعات الملوثة للبيئة والضارة بالصحة العامة، وهذا بداية من المراحل الأولى لتصنيعها وصولا لمرحلة الاستهلاك والاستخدام.
فعملية تصنيع هذه المواد تتطلب استعمال محاليل سامة لتسريع الإنتاج، كما تتطلب استخدام عناصر معدنية ثقيلة لتثبيت الألوان، وهذا علاوة على الانبعاثات والغازات الضارة المتخلفة عن هذه الصناعة، ومعظمها يؤول في النهاية إلى الأنظمة البيئية المختلفة خاصة البحار والمحيطات، ملوثة إياها ومسببة دمارا شديدا لبعض الكائنات قد يصل في بعض الأحيان إلى الهلاك.
وبالنظر إلى معدلات الإقبال العالية على هذه المنتجات، فإن هناك كميات كبيرة جدا ومتزايدة من النفايات البلاستيكية تتخلف عن عملية الاستهلاك، وتلقى في النهاية إلى المكبات المختلفة أو تؤول في الأخير إلى البحار والمحيطات عن طريق حملها وصرفها مع مياه الأنهار والمجارير وخلافه.
"تشير الإحصائيات المتعلقة بهذا الشأن إلى زيادة كمية تصنيع وإنتاج البلاستيك من 15 مليون طن في العام 1964 إلى أكثر من 310 ملايين طن في العام 2014"
والإحصائيات المتعلقة بهذا الشأن تشير إلى زيادة كمية تصنيع وإنتاج البلاستيك من 15 مليون طن في العام 1964 إلى أكثر من 310 ملايين طن في العام 2014. وبالنظر إلى دلالات هذه الأرقام، فإنه ليس بمستبعد أن تفوق كمية المواد والنفايات البلاستيكية المتسربة للمناطق البحرية كمية المصايد والأسماك المتاحة في بعض المناطق البحرية في غضون ثلاثين عاما.
والمشكلة الكبرى بالنسبة للبلاستيك أنها مادة صعبة التحلل، حيث يتطلب تحلل واختفاء بعض أنواعها حوالي أربعة قرون كاملة، وهذا بدوره يمثل عبئا إضافيا على البيئة ومقدراتها، بسبب عدم قدرة هذه الأنظمة على التخلص منها أو حتى التعامل معها.
وفضلا عن ذلك فهي مصنعة من بوليمرات ومواد كيميائية تحمل قدرا من السمية مثل البولي إيثيلين والبولي بروبلين والبولي فينيل كلوريد، ومعظمها يتسرب للأسف إلى السلسلة الغذائية نتيجة امتصاص المحاريات وابتلاع الأسماك الصغيرة والحيتان وغيرها جزئيات هذه المواد، مما قد يؤدي في النهاية إلى انتقالها للإنسان وإصابته بالأمراض ومسببات السرطان.
أما آثار التلوث بالنفايات البلاستيكية على البيئة البحرية والمرافق الساحلية، فحدث ولا حرج، وهذا بداية من تراكم هذه النفايات على الشواطئ والخلجان الهادئة مما يشوه جمال هذه الشواطئ ويفسد المنظر العام، إلى تجمعها في أنابيب وقنوات الصرف مما يتسبب في مشاكل جمة نتيجة انسدادها، إلى انجراف هذه النفايات وتجمعها في شكل جزر منعزلة في نهاية مسارات التيارات ومراكز الدورانات البحرية، كما سبق الإشارة لذلك في معرض الحديث عن القارة السابعة.
وهناك أكثر من طريقة تتضرر بها الكائنات البحرية من هذه النفايات، أبرزها الاختناق بسبب ابتلاع الأكياس والمواد البلاستيكية، والتعلق بالشباك المصنوعة من النايلون أو الأكياس الكبيرة الحجم، وابتلاع المواد الميكروبلاستيكية معتقدة أنها غذاء. وفي هذا تقدر إحدى الدراسات جملة ما تبتلعه الأسماك المستوطنة للمياه المتوسطة العمق في شمال المحيط الهادي من هذه المواد بما يقرب من 24 ألف طن سنويا. وتعتبر الأسماك والسلاحف والطيور والثديات البحرية والإسفنجيات والشعاب المرجانية هي أكثر الأنواع تضررا من النفايات البلاستيكية.
الحلول الممكنة
 "من أبرز الحلول خفض نسب استهلاك الأكياس والمواد البلاستيكية بشكل جذري عن طريق استخدام الأكياس الورقية أو المصنوعة من القماش، والعمل على إعادة تدوير أو تصنيع النفايات البلاستيكية، كما هو حادث مع المنتجات الخشبية والورق"
لسنا هنا بحاجة لاختراع العجلة من جديد للحديث عن حل مشكلة النفايات البلاستيكية، لأن الحلول معروفة ولا ينقصها سوى التنفيذ. ومن أبرز هذه الحلول خفض نسب استهلاك الأكياس والمواد البلاستيكية بشكل جذري عن طريق استخدام الأكياس الورقية أو المصنوعة من القماش، والعمل على إعادة تدوير أو تصنيع النفايات البلاستيكية، كما هو حادث مع المنتجات الخشبية والورق.
إما إذا كان هناك صعوبة في ذلك، فيجب في هذه الحالة العمل على التخلص من هذه النفايات بطريقة رشيدة وغير ضارة بالبيئة قدر الإمكان، وهذا من خلال حرقها في مكامر خاصة أو دفنها تحت الأرض.
وهناك على أية حال محاولات تجرى حاليا لتحويل النفايات البلاستيكية إلى وقود سائل أو مواد أخرى مفيدة، وهذا إن نجح سيشكل بالطبع فارقا كبيرا في كمية النفايات التي تصل للبحار والمحيطات سنويا، وسيقلل كثيرا من آثارها الضارة على البيئة والصحة العامة.
نأمل حقيقة أن يتحقق هذا في القريب، لأنه من دون هكذا حل أو غيره سيزيد عدد القارات البلاستيكية من حولنا، وسنغرق في النهاية في بحر كبير من النفايات البلاستيكية.

المصدر

ليست هناك تعليقات