العرب والعلوم.. غروب شمس أنارت العالم


يقول المؤرخ والباحث الأميركي مارتن كرامر "لو كانت جوائز نوبل قبل ألف عام، لذهبت تقريبا حصريا إلى المسلمين"، كما يقول الباحث هيليل أوفيك من جامعة تكساس في أوستن، إن العلوم العربية كانت الأكثر تقدما في العالم حتى نحو القرن الثالث عشر الميلادي.
فما أسباب النهضة العلمية للعرب والمسلمين في ذلك العهد؟، هذا ما يحدثنا عنه عالم الذرة الفلسطيني البروفيسور في جامعة إلينوي الأميركية منير نايفة الذي يملك في جعبته 23 براءة اختراع في تقنيات النانو. يقول البروفيسور:
في تلك الحقبة من العصور الوسطى كانت هناك إمبراطورية إسلامية متكاملة في كل جانب من جوانبها بشكل مماثل للولايات المتحدة الآن، لكن العالم العربي والإسلامي تفكك إلى 55 من البلدان المستقلة الصغيرة الضعيفة دون أن يكون هناك أساس لأي تكامل أو تعاون حقيقي فيما بينها.
في العصور الوسطى تم إنشاء الجامعات في المدن الرئيسية في بغداد ودمشق والقدس والإسكندرية والقاهرة وقرطبة، كما تم تجهيز أكثر من 24 مرصدا ومعهدا متخصصا مدعوما بأحدث الأجهزة في أماكن متعددة من الإمبراطورية. وتوزعت هذه المراصد في مدن عديدة مثل: بغداد ونيسابور وقاسيون وسنجار وواسط وأفاميا وتدمر ومراغة والقاهرة وإشبيلية وهمدان وطليطلة وسمرقند. ووظّفت هذه المراصد ثلّة من أكثر العلماء والمهندسين بروزا، مما جعلها مؤهلة لأن تصبح "معاهد تقنية" كما يطلق عليها بلغة العصر الحديث.
الكتب والترجمة
ولمساندة معاهد البحث، ازدهرت تجارة الكتب من كتابة وترجمة ونشر، لذلك احتوت الجامعات والقصور ومنازل التجار على مكتبات ضخمة. وبحلول العام 1250 ميلادي، توفرت أكثر الكتب قيمة في المكتبات الإسلامية لعلماء أوروبا للترجمة. وكان هذا النشاط في غاية الأهمية التاريخية، إذ تم تمرير الكثير من المعارف العلمية التي جمعها المسلمون من العالم الكلاسيكي القديم ومن الهند بالإضافة إلى معارفهم، إلى الغرب عبر إسبانيا وإيطاليا الجنوبية في فترة الحروب الصليبية.
وقد اتضحت قيمة هذه النظم المنتشرة عندما بدأ المغول في الشرق والمسيحيون في إسبانيا منهج التدمير الكلي لكتب المسلمين، ولحسن الحظ بقيت بعض الكتب في مصر وفارس والهند.
بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء معهد أبحاث معتبر في بغداد سمي بـ"دار الحكمة"، واشتمل هذا المعهد على علماء نظريين وتجريبيين ومهندسين وفنانين ومترجمين وناشرين وراصدي فلك. فاحتشد أكثر العلماء شهرة والمترجمون والفنانون والعلماء من جميع أرجاء العالم، وقد ضم المعهد أكثر العلماء بروزا في العالم من مختلف الطوائف والعقائد. وبلغة اليوم، كنت لأطلق على دار الحكمة تسمية "معهد المأمون للتقنية" (أم آي تي)، على غرار معهد ماساتشوستس للتقنية (أم  آي تي).
لقد اتخذ المأمون خطوات عملية للتطوير والدعم المالي، فقد جهز عدة مراصد ووزعها في أماكن مختلفة في ملكه، وقام بتوظيف العلماء والمهندسين وبدعم هذه المراصد وتزويدها بأحدث الأجهزة بسخاء. وأصبحت بغداد واحدة من أعظم مراكز التعلم كما هي الآن حال معهد ماساتشوستس للتقنية في بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية.
تعدد الجنسيات
في المراصد والمعاهد البغدادية، شارك علماء عرب وإغريق وفرس ويهود وهنود وعلماء من جنسيات أخرى بتراثهم الثقافي، وهذا هو نفس التقليد المتبع اليوم في المعاهد بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
لقد سجل التاريخ مثالا متألقا على ذلك في عام 771 حينما حضر أحد علماء الهند إلى بغداد مع أطروحته حول علم الفلك، مستخدما فيها نظام الأرقام الهندي، وعمل البغداديون على تغيير هذا النظام الذي كان يحوي مشكلة فيه إذ كانت الأرقام تكتب فيه بشكل عكسي، وقد قادت النسخة المطورة من النظام الهندي إلى إحداث ثورة في علم الرياضيات وفي التجارة، وعرف النظام الجديد بنظام الأرقام العربية.
وعلى سبيل المثال، استطاع مرصد نيسابور في جنوب غرب فارس إنتاج أرصاد باستخدام أفضل الأجهزة وأدقها في ذلك الوقت. ومع مطلع القرن التاسع، تمكن فريقه في سهول سنجار بالهند من قياس درجة خط الزوال، وذلك باتباع طريقة جديدة مطورة تفوقت على الطريقة المستخدمة من قِبل الإغريق.
لقد كانت هذه الشمولية في الموهبة -بغض النظر عن أصولها-  قوية جدا في العلماء العرب والمسلمين. في الواقع، قام المأمون بوضع  المرصد الفلكي المرفق لدار الحكمة قريبا من بوابة الشمسية في بغداد، تحت قيادة سند بن آل اليهودي الذي تحول إلى الإسلام، ويحيى ابن أبي منصور (830 أو 831 للميلاد).
ابتكارات عديدة
ومن إنجازاتهم أيضا تجميع جداول خطوط الطول والعرض لأهم المدن في العالم الإسلامي. وإلى جانب استخدام الفلك لأغراض دينية (مثل تحديد أوقات الإجازات الدينية ومواعيد الإمساك والإفطار)، فقد استُخدم كأداة للملاحة، فوظفوا في البداية أداة الإسطرلاب التي اخترعها الإغريق، وبعد أن تم تحسينها وتطوريها، ظهرت السدسية التي تميزت بتفوقها على الإسطرلاب من حيث الدقة والموثوقية في نتائجها. لقد أعطت الحاجة التجارية والعسكرية قوة دافعة لصنع خرائط العالم.
من الواضح جدا أن عرب القرون الوسطى امتلكوا موهبة عظيمة ودافعا وتوجهات كبيرة للإمساك بزمام أي مجال من مجالات العلوم والتقنية في عصرهم. وقد بدا هذا واضحا في قدرتهم على البحث والحصول على الأدب الأجنبي القديم، بالإضافة إلى ترجمة ودراسة وإثبات المكتشفات، والمضي بها إلى أعلى رتبة في سلم التطوير.
وقد كتبت في مقال بمناسبة الذكرى الألف لولادة ابن الهيثم، أن العصرين العباسي والفاطمي يعتبران من العصور الذهبية الإبداعية للحضارة الإسلامية، حيث شهدا العديد من التطورات المذهلة في مجال العلوم والتكنولوجيا ومنها تكنولوجيا النانو. وشهدت الفترة صناعات كيميائية وتقنية متقدمة من الزجاج والفخار، واستغلال الإضاءة المتقدمة واللون والتأثيرات البصرية وهياكل النانو المعدنية المنتجة من المساحيق المختلطة من الفضة والذهب.
كما تقدمت صناعة المواد والصناعات المعدنية بما في ذلك التصنيع الميكانيكي الحراري والصلب لأغراض مدنية وعسكرية، ومن بين تلك المنتجات السيوف الدمشقية الشهيرة التي كانت مصنوعة من الفولاذ المستورد من الهند القديمة، وكانت صلبة بشكل ملحوظ، حادة خفيفة الوزن، وفي الحقيقة اكتشفت الدراسات الحديثة وجود أنبوب نانو الكربون في السيوف، وهو ما أعطاها خصائص مواد استثنائية.
وأذكر في هذا الصدد الحسن بن الهيثم الذي ولد في هذا العصر المزدهر (965) وساهم في العديد من المجالات، بما في ذلك علم الفلك والرياضيات والطب وخصوصا البصريات. فقد غامر في البحث العلمي التجريبي الرائد، مع منهجية جيدة مثل ما نستخدمه اليوم في أرقى معاهد البحوث. وتناولت دراسته طبيعة الضوء واللون الذي أسفر عن عدة اختراقات ثورية.
وقلت شخصيا في مقالي عن ابن الهيثم: لو كانت جائزة نوبل في القرن التاسع أو لم تستبعد أنظمتها المتوفين، لحصل ابن الهيثم بالتأكيد على جائزة نوبل؛ لأن لديه اختراقات ثورية في تعزيز فهمنا لطبيعة الضوء.

المصدر

ليست هناك تعليقات